الأحد، 3 مارس 2013

حكاية من لم يُقتل في موقعة الجمل


(1)

كي لا ننسى.. أننا نسينا.

(2)

الواحدة ظهرًا..

أسير بعابدين في طريقي إلى التحرير، يلفت انتباهي صورة لمبارك على خلفية سيارة أجرة.
أنزعج.. كانت هذه أول مرة أرى صورته في الشارع منذ 25 يناير، أتقدم من السائق وأخاطب عاطفته قائلاً:

ــ الرجل ده قتل ناس كانوا جنبي يوم 28.

التفت لي ببطئ وقال بابتسامة واسعة:

ــ وحنقتلك إنت كمان.

إرتبكت من المفاجأة.. كل من لقيته منذ 25 كان يكره مبارك أو على الأقل غاضبًا من الدم في 28 يناير.. اكتشفت وجود مؤيدين للرئيس واكتشفت أنهم يريدون أن يقتلوا من أجله.

والأهم اكتشفت أن أحدهم يهددني بالقتل.

لم أنفعل عليه.. فلن اشتبك مع مصري لمجرد أنه يؤيد سلطة أعارضها.. تركته واتجهت لاعتصامنا بالميدان، لكنه تابعني قائلاً:

ــ رايح التحرير.. إنت حر.. حنرجعك من هناك قتيل.

بدا لي تافهًا.. لكن بعد ساعة من وصولي الميدان وجدت من يدخل علي خيمة الاعتصام ليبلغنا بأن هناك «بلطجية» يقتحمون التحرير.

إعتبرته يبالغ فقد كنا آلافًا وآلافًا..أي بلطجية يجرؤا على مواجهة كل هؤلاء؟

أخرج فأجد حشودًا هائلة تتقدم بمحازاة محل كنتاكي في بداية مدخل عبدالمنعم رياض.

نجمع أنفسنا ونصطف أمامهم لنشكل حائطًا بشريًا يصد تقدمهم.

أمامنا آلاف يحملون صور مبارك ويهتفون بحماس:

ــ مش حيمشي.. انتوا تمشوا.

نرد بهتافات معادية للرئيس، يجذب أحدهم الكوفية الفلسطينية التي أحملها.. فاختطف منه علم مصر.
يرد لي آخر الكوفية، بعدما انتزعها من زميله ويقول لي:

ــ مش عايزين نعض في بعض.

أربت على كتفيه مؤيدًا بعصبية.

تهدأ الجبهة وأساعد مجموعة من شباب الإخوان في الفصل بين الصفين.

تمر دقائق.. وفجأة يشتبك اثنان على بعد أمتار.. فننظر لوجوه من يواجهونا وينظرون لنا.
يبدو أننا سنشتبك.. فنرتبك.

يتسع الشجار بالأيدي.. ثم أرى حجارة تندفع من خلفهم نحونا فتصيب من بجواري.. وحجارة تندفع من خلفنا إليهم.

أمد يدي إلى الأرض وأتناول حجرًا أسفًا.. يقل أسفي عندما أجد من أمامي يفعل.

يلتقى الجمعان.. تبتعد الصفوف ونتبادل الحجارة.. فتصطدم حجارتنا بحجارتهم في الهواء.

كان بينهم فتيات جامعيات.. فأسال نفسي من هؤلاء، ولماذا نزلوا؟، ولكن يقطع «تأملاتي الفكرية» حجر يصاب به شاب بجواري في رأسه.

حسنًا.. سنسحقكم وبعدها سنعرف من أنتم.

تراجعوا أمام سيول حجارتنا إلى ميدان طلعت حرب، وتواصلت الاشتباكت في شارع جانبي يربط التحرير بطلعت حرب.

نتبادل الكر والفر بالشارع.. أرى شجعانًا من الطرفين يرفضون الانسحاب عندما يهجم الطرف الآخر فينتهي بهم الأمر إلى التكالب عليهم ضربًا.

يتساقط العشرات حولي.. فأتحول من إنسان إلى غضب.. أعلم لحظتها أن البشر كأسماك القرش تثير الدماء جنونهم
.
يتقدموا ويتصدرهم شاب يحمل سيفًا.. بدا شجاعًا.. يصيب فردًا منا.. فتتراجع مقدمتنا أمام السلاح الأبيض.

نكر عليهم.. نتقدم في مجموعة فيقف الشاب بثبات ملوحًا بسيفه في وجهنا بتحدي.. تقع عيناه في عيني فتبرق عينه وتلمع عيني.

يقترب مني بسيفه.. أقترب منه بحجري.

أركز.. وألقي الحجر بكل قوتي.

تتناثر دماء.

أتراجع لأفسح لفريقه أن يتقدموا لإسعافه.. وأنظر له وهو يتلوى من الألم..

أنا منذ الآن غيري.

(3)

عن أولئك الذين نرميهم بالحجارة ولا ندري من هم.

(4)

الرابعة عصرًا..

يتصل بي من كان صديقي..

كان يكره مبارك ويتمنى تكرار تجربة تونس.. فوجئت به يحدثني ببرود عن ارتباكه ورفضه النزول في فتنة.

ــ فتنة إيه يا روح أمك.. بقول لك جايين يقتلونا في الميدان.

سكت طويلاً..لم يتخيل يومًا أن أتحدث هكذا.. فعلاً.. ولكنني لم أتخيل يومًا أن ألقى الحجارة على وجوه البشر.

اعتبرني صفيقًا واعتبرته جبانًا.

فيما بعد التقينا.. حاولنا تجاوز ما حدث.. حاولت أن أعود متسامحًا أحترم خيارت البشر وحاول أن يعود رجلا.

(5)

البشر كانوا هناك.. كيف لم تروا سوى جمل؟

(6)

السابعة مساء..

داخل خيمة الاعتصام يرتجف صديقي المدرس بتشنج.. بدا مذعورًا بشكل مرضي.

أحاول إقناعه بأنه مدرس وليس دوره أصلا أن يقاتل.. أحكى له أن من خارج الخيمة ليسوا أبطالاً.. 

أغلبنا نقف على مسافة ونطرق على الحديد لإحداث ذعر للمهاجمين أو نكسر حجارة أو ننقل جرحى.
لم يسمعني.. ظل يردد:

ــ مش قادر أتحرك من مكاني.. مش قادر أتحرك.

عندما انتهت المعركة كنا انتصرنا.. ولكني لم أرِ صديقي متحمسًا لا للنصر ولا لأي شيء آخر في العالم بعد ذلك.

(7)

الثورة كانت «ملفوفة لفة هدايا».. لم نكن نعرف بالضبط ما بداخل الهدية.

(8)

الثانية فجرًا..

ــ أنتم رجالة أنتم.. حيدخلوا علينا ويموتونا.

هكذا تقول امرأة في الأربعين من عمرها وهي تطل برأسها داخل خيمتنا.

كنا ممدين تحدت الغطاء مرهقين من اشتباكات تبدو لانهاية لها.. قمت بنصف جسدي وتأملتها قليلاً، ثم عاودت النوم بسماجة.

ولكن صديقي أحرج فهزني لنتحرك قائلاً:

ــ فيه ضرب فعلاً عند عبدالمنعم رياض.. قوم بينا.. كفاية نوم.

أتحرك بلا حماس، نتقدم نحو عالم مظلم تنيره قنابل المولوتوف، قرب الاشتباكات فتاه تضع لي كارتون فوق راسي، ثم تثبته بقطعة قماش حول وجهي، وبعد خطوات يضع أحدهم في يدي مجموعة حجارة.

هل نريد أكثر من ذلك لنواجه العالم؟

يسبقني صديقي بحماس.. يندفع جريًا نحو الصفوف الأمامية وهو يصرخ بمرح.
أرفع يدي صارخًا بدوري ببهجة..

مع الجري تسقط قطعة الكارتون من فوق رأسه فيتوقف لإعادتها.. قبل أن يواصل اندفاعه حتى يصل للمعركة. يختبئ خلف مدرعة من قنابل المولوتوف التي تتطاير حوله، ثم ينحني ليلتقط أول حجر.. لكنه ما إن يرفع رأسه ليلقيه حتى يداهمه حجرًا ثقيلا في صدره.

يسعل متألما.. فأقترب وأسنده حتى نتراجع إلى الصفوف الخلفية.

كان يتنفس بصعوبة، فأقلق من أن يكون أصيب في قفصه الصدري وأقول له:

ــ إحنا نجمع لهم طوب لغاية ما نطمن عليك.

يهز رأسه موافقًا.. فنبدأ في تكسير حجارة الرصيف ونقلها للأمام.

بمرور الوقت.. بدا واضحًا أن ما نجمعه لا قيمة له.. فالمشتبكون يقفون بالفعل فوق تل من الحجارة.
اتطلع بنظري إلى الصفوف الأمامية للحظة فيقول لي بصراحة:

ــ مستعد أموت شهيد.. لكن مش حقدر أعيش أعمى.. مش حستحمل واحدة زي دي ترشق في عيني.
نظر للأرض.. وواصل جمع الحجارة إلى الحجارة وهو يدمع ويقرأ القرآن.

(9)

أبكوا الشهداء.. أبكوا المصابين.. بالمناسبة.. أبكوا الناجين.

(10)

السابعة صباحًا..

الاشتباكات انتهت.. متاريسنا الصفيخ شارفت تمثال عبد المنعم رياض.. نقف خلفها بينما افراد قلائل من «العدو» فوق الكوبري يلقون حجارة بغل الهزيمة فلا تصل إلينا.

أخرج من بوابة شارع الفلكي وأمامي شاب أصغر مني وجهه مشوه من حادثة تصورتها قديمة.. أسير بجواره لنحمي بعضنا من اللجان الشعبية التى يسيطر عليها أنصار مبارك بالمنطقة.

فوجئت به يسألني:

ــ فيه حاجه في وشي؟

اندهشت من السؤال.. حاولت عدم الاستغراق في بشاعة الوجه فتابع:

ــ رموا علينا مولوتوف فلبست فى وشي.. معرفتش أخرج بالليل.. حطولي حجات قللت الألم.

هالني عدم إدراكه لحجم ما حدث لوجهه، فكرت كيف أصارحه دون أن أصدمه حتى قلت له:
ــ لازم تروح مستشفى فورًا.

ــ حروح آخد دش الأول وأطمن أمى.. زمانها مرعوبة.

دش.. يطمئن أمه.. كررت بعصبية أن عليه الذهاب لطبيب.

لم يرد ولكن بدأ توتري ينتقل إليه.. صافحني لنفترق عن محطة مترو محمد نجيب.

أتألم لمن خرج بوجه ولم يعد به.. لمح نظرتي فسألني:

ــ أنا إتشوهت؟..

/

محمود السقا

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by NewWpThemes | Blogger Theme by Lasantha - Premium Blogger Themes | New Blogger Themes تعريب قوالب بلوجر