تائه هو بين طيات
عقل ، لا يحمل اسم ولا
هوية ، بلا وطن بلا مأوى ، يتلاشى تدريجيا ، هناك على الحافة المطلة على الجزء الأكثر
حرارة من الشمس المشتعلة حمرةً في وسط ليل حزين ، يقبع في تلك
البقعة جسم هلامي ، يذوب و يتبخر ، يتوارى
خجلا ، يتكثف ويعود ثانيةً ، يتراءى إلى الناظر أنه يتناقص تدريجيا ، وفي أحيان
كثيرة يتزايد فجأه ، يتحول إلى أشكال كبيرة وأحيانا صغيرة ، حلقات معدنية ، أطباق طائرة ، وعصافير مغردة ، لكن الصوت يخرج كقرقعات الملاعق
المعدنية في أكواب زجاجية ، كان هناك من يراقبة
لشدة حرصه على دراسة هذا النوع من المركبات ، المركبات القادرة على التحول
إلى شيء آخر ، والإنتقال من حالة إلى أخرى دون المرور إلى الحالة الوسطية ، كان
منبهراً بذاك المخلوق ، إن استطعنا تسميته مخلوقا ، وضعه في صندوق أسود ، بعيدا عن
أي لون أو أي شيء قد يتشابه معه ، لكن الهلامي التصق بكل جزء من الصندوق ، أصبح
شيئا أسود قميئا ، وذلك الأجوف المتخاذل كعادته ، يتناسى ما لا يحتاجه ، يتركه
وحيدا بعيدا متسلسلا حتى يضمن وجوده حال تذكره له ، تناساه فترة لانشغالة في بحث
يعمل على تحويل البشر امثاله - أولئك الذين لم يعودوا يملكون قطرة دم واحدة تسير
في شريان يوحد خالقه داخل جسدهم - الى اجساد هلامية كذاك القابع بعيدا في صندوق أسود
، منسي ولن يتذكره أحد أبدا ، وما إن أثبت أن الهلامية تشكل مكوناً رئيسيا في جسد
اولئك المنتسبين للحياة عنوةً ، تذكره ، تذكره و قرر ان يفاجيء الهلامي بتجربة
فريدة ، سيحقنه داخل جسد هِرَه ، كل ما كان يشغل تفكيره آن ذاك ليس قبول الهلامي
وعدمه ، أو حتى كيف سيتأثر ، ولا تظنوا أن القطة حظيت بجزء من عطفه ، كل ما لفت
انتباهه متأخرا ، هل سيضحي بكل حجم الهلامي ، " ماذا لو لم أنجح ، سأكون كتبت
شهادة موت بحثي قبل أن يولد ، ساحاول تجزة الهلامي إلى قطع منفصلة في صناديق سوداء
مختلفة حتى لا تنفذ الكميه" – قالها محدثا نفسه ، وبقى الهلامي الوحيد في تلك
العلبة الأشبه بالنسبة له بلاشيء ، فهو لا يرى أو يدرك أو يسمع أي شي ، لكن الأبلة
الآخر المنتسب إلى العلم سذاجة مِنْ مَنْ يهبون العلماء ألقابهم ، نسي الأحمق ...
، نسي تماما أن الهلامي يمكن أن يتلاشى
بعيدا ، وبعيدا جدا أيضا ، نسي أنه يتبخر ويتكثف ويتشكل ، جاهل في رتبة عالم ،
مثيرٌ للسخريةِ وبشدة ، وما إن انتهى من جمع الصناديق الكثيرة التي كلفته في صنعها
الكثير ، فتح الصندوق الأسود المقيت ليفاجأ بإنه خال تماما من كل شيء ، حتى حبات
الهواء ، تفحصه بعقله الصدِيء البائس ، تفحص كل جزء فيه ، صنع منه شرائح ووضعها
تحت ميكروسكوبه الضوئي ، آملا أن يرى أي شيء ، أي شيء يثبت حتى أن الهلامي كان
قابعا فيه ، لكنه لم يرى شيئا ، أي شيء ، " لم يكن هناك وجود يوما ما لكائنك
الهلامي هذا سوى داخل خلاياك المعطوبة أيها البائس الحزين " كانت هذه الكلمة
تتكرر في المكان من حوله ويضج بها الفراغ ، قرقرات الملاعق في الأكواب الزجاجية ،
يزداد اللون إحمرارا من حوله ، يذوب ، يتبخر ، صرااااااخ ، ينتفض من فراشه ، يلهث
من شدة الحرارة ، اووووووه ، كان كابوس شديد الأذى لقد اتلف ما تبقى له من
خلايا في عقله ، لوهلة تذكر ، عاد ليتفقد الصندوق الذي وضع هلاميه فيه بالامس ،
مبتهجا قلقا ، نصف مبتسم أنه كان يحلم ونصف حزين يخشى أن يتحقق الحلم ، فتحه ،
ولاشيء ، لاشيء هناك ، لا بقايا ، لا شيء ، لفت انتباهه ذلك الضوء الأبيض المنبعث
من داخل غرفة نومه ، عاد أدراجه لم يجد شيئا لكنه ارتطم في المرآة المعلقة على
جدار غرفته تلك ، انبعجت يده ثم عادت لوضعها ثانيةً ، الأحمق لم يلحظ هذا ، نظر إلى
ذاته المرهقة في المرآة ، وضع يده على
صورة وجهه فيها قائلا لذاته البائسه " يالك من تعيس ، أنت لا تملك سوى أن
تعود لسريرك مرة اخرى " ، جَرَّ اذيال خيبته وعاد ليباشر كوابيسه ، تلك التي
ينعتها بالأحلام ، لم ينتبه على الذرات الهلامية التي بقيت على المرآه بعد ملامسته
لها ، لم يدرك الأحمق أنه هو ذاته الجسم الهلامي
، فكيف عساه يجد نفسه في علبة لم
يحبسه فيها سوى عقله المريض فقط .
/
منى بدران
0 التعليقات:
إرسال تعليق